كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قوله: {لا إله إِلاَّ هُوَ} يجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفًا، وأَنْ يكونَ خبرًا بعد خبرٍ.
{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)}.
قوله: {يَرْضَهُ لَكُمْ} قرأ {يَرْضَهُوْ} بالصلة- وهي الأصلُ مِنْ غيرِ خلافٍ- ابنُ كثيرٍ والكسائيُّ وابنُ ذكوان. وهي قراءةٌ واضحةٌ. وقرأ {يَرْضَهُ} بضم الهاءِ مِنْ غيرِ صلةٍ بلا خلافٍ نافعٌ وعاصمٌ وحمزةُ. وقرأ {يَرْضَهْ} بإسكانها وَصْلًا مِنْ غيرِ خلافٍ السوسيُّ عن أبي عمروٍ. وقرأ بالوجهين- أعني الإِسكانَ والصلةَ- الدُّوْريُّ عن أبي عمروٍ، وقرأ بالوجهين- أعني الإِسكانَ والتحريكَ مِنْ غيرِ صلة- هشامٌ عن ابنِ عامرٍ، فهذه خمسُ مراتبَ للقُرَّاءِ، وقد عَرَفْتَ توجيهَ الإِسكانِ والقصرِ والإِشباع ممَّا تقدَّم في أوائلِ هذا الموضوع، وما أَنْشَدْتُه عليه وأسْنَدْتُه لغةً إلى قائله. ولا يُلْتَفَتُ إلى أبي حاتمٍ في تَغْليطِه راويَ السكونِ، فإنها لغةٌ ثابتةٌ عن بني عُقَيْل وبني كلاب.
{وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8)}.
قوله: {مُنِيبًا} حالٌ مِن فاعل {دَعَا} و{إليه} متعلق ب {مُنيبًا} أي راجِعًا إليه.
قوله: {خَوَّله} يُقال: خَوَّلَه نِعْمَةً أي: أعطاها إياه ابتداءً مِنْ غيرِ مُقْتَضٍ. ولا يُسْتَعْمَلُ في الجزاءِ بل في ابتداءِ العَطِيَّةِ. قال زهير:
هنالِك إنْ يُسْتَخْوَلُوا المالُ يُخْوِلُوْا

ويُرْوَى يُسْتَخْبَلُوا المالَ يُخْبِلوا. وقال أبو النجم:
أَعْطَى فلم يُبْخَلْ ولم يُبَخَّلِ ** كُوْمُ الذُّرَى مِنْ خَوَلِ المُخَوَّلِ

وحقيقةُ خَوَّل مِنْ أحدِ معنيين: إمَّا مِنْ قولِهم: هو خائلُ مالٍ إذا كان متعهِّدًا له حَسَنَ القيام عليه، وإمَّا مِنْ خال يَخُول إذا اختال وافتخر، ومنه قولُه:
إنَّ الغنيَّ طويلُ الذيلِ مَيَّاسُ

وقد تقدَّم اشتقاقُ هذه المادةِ مُسْتوفىً في الأنعام.
قوله: {منه} يجوز أَنْ يكونَ متعلقًا بخَوَّل، وأنْ يكونَ متعلقًا بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل {نِعْمة}.
قوله: {مَا كَانَ يدعوا} يجوزُ في ما هذه أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أَنْ تكونَ موصولةً بمعنى الذي، مُرادًا بها الضُّرُّ أي: نسي الضرَّ الذي يَدْعو إلى كَشْفِه. الثاني: أنها بمعنى الذي مُرادًا بها الباري تعالى أي: نَسِي اللَّهَ الذي كان يَتَضرَّعُ إليه. وهذا عند مَنْ يُجيزُ ما على أُوْلي العلمِ. الثالث: أَنْ تكونَ ما مصدريةً أي: نَسِي كونَه داعيًا. الرابع: أن تكونَ ما نافيةً، وعلى هذا فالكلامُ تامٌّ على قولِه: {نَسِيَ} ثم استأنَفَ إخبارًا بجملةٍ منفيةٍ، والتقدير: نَسِيَ ما كان فيه. لم يكنْ دعاءُ هذا الكافرِ خالصًا لله تعالى. و{من قبلُ} أي: من قبلِ الضررِ، على القول الأخير، وأمَّا على الأقوالِ قبلَه فالتقديرُ: مِنْ قبل تخويلِ النِّعمة.
قوله: {لِيُضِلَّ} قرأ ابنُ كثيرٍ وأبو عمروٍ {لِيَضِلَّ} بفتح الياء أي: ليفعلَ الضلالَ بنفسه. والباقون بضمِّها أي: لم يقنع بضلالِه في نفسِه حتى يَحْمِلَ غيرَه عليه، فمفعولُه محذوفٌ وله نظائرُ تقدَّمَتْ. واللامُ يجوزُ أن تكونَ للعلةِ، وأن تكونَ للعاقبة.
{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجدًّا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)}.
قوله: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ} قرأ الحَرميَّان: نافعٌ وابنُ كثير بتخفيف الميم، والباقون بتشديدها. فأمَّا الأُولى ففيها وجهان، أحدهما: أنها همزةُ الاستفهامِ دَخَلَتْ على مَنْ بمعنى الذي، والاستفهامُ للتقريرِ، ومقابلُه محذوفٌ، تقديرُه: أمَنْ هو قانتٌ كمَنْ جعل للَّهِ تعالى أندادًا، أو أَمَنْ هو قانِتٌ كغيرِه، أو التقدير: أهذا القانِتُ خيرٌ أم الكافرُ المخاطبُ بقوله: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا} ويَدُلُّ عليه قولُه: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ} فحذفَ خبرَ المبتدأ أو ما يعادِلُ المُسْتَفْهَم عنه. والتقديران الأوَّلان أَوْلى لقلةِ الحَذْفِ. ومن حَذْفِ المعادِلِ للدلالةِ قولُ الشاعر:
دَعاني إليها القلبُ إنِّي لأَمْرِها ** سميعٌ فما أَدْري أَرُشْدٌ طِلابُها

يريد: أم غَيٌّ. والثاني: أَنْ تكونَ الهمزةُ للنداءِ، ومَنْ منادى، ويكون المنادى هو النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وهو المأمورُ بقولِه: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ} كأنه قال: يا مَنْ هو قانِتٌ قل كَيْتَ وكَيْتَ، كقولِ الآخرِ:
أزيدُ أخا وَرْقاءَ إنْ كنتَ ثائرًا

وفيه بُعْدٌ، ولم يَقَعْ في القرآن نداءٌ بغير يا حتى يُحْمَلَ هذا عليه. وقد ضَعَّفَ الشيخُ هذا الوجهَ بأنه أيضًا أجنبيٌّ مِمَّا قبله وممَّا بعده. قلت: قد تقدَّمَ أنه ليس أجنبيًا ممَّا بعدَه؛ إذ المنادَى هو المأمورُ بالقولِ. وقد ضَعَّفَه الفارسي أيضًا بقريبٍ مِنْ هذا. وقد تَجَرَّأ على قارئِ هذه القراءةِ أبو حاتم والأخفش.
وأمَّا القراءةُ الثانيةُ فهي أم داخلةً على مَنْ الموصولةِ أيضًا فأُدْغِمَتْ الميمُ. وفي أم حينئذٍ قولان، أحدهما: أنها متصلةٌ، ومعادِلُها محذوفٌ تقديرُه: آلكافرُ خيرٌ أم الذي هو قانِتٌ. وهذا معنى قولِ الأخفشِ. قال الشيخ: ويحتاج حَذْفُ المعادِلِ إذا كان أولَ إلى سَماعٍ. وقيل: تقديرُه: أمَّنْ يَعْصي أمَّن هو مطيعٌ فيستويان. وحُذِفَ الخبرُ لدلالةِ قولِه: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ}. والثاني: أنَّها منقطعةٌ فتتقدَّرُ ب بل والهمزةِ أي: بل أمَّن هو قانِتٌ كغيرِه أو كالكافر المقولِ له: تمتَّعْ بكفرِك. وقال أبو جعفر: هي بمعنى بل، ومَنْ بمعنى الذي تقديرُه: بل الذي هو قانتٌ أفضلُ مِمَّنْ ذُكِرَ قبله. وانتُقِدَ عليه هذا التقديرُ: من حيث إنَّ مَنْ تَقَدَّم ليس له فضيلةٌ البتةَ حتى يكونَ هذا أفضلَ منه. والذي ينبغي أَنْ يُقَدَّرَ: بل الذي هو قانِتٌ مِنْ أصحاب الجنة؛ لدلالة ما لقسيمِه عليه مِنْ قولِه: {إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النار}. و{آناءَ} منصوبٌ على الظرفِ. وقد تقدَّم اشتقاقُه والكلامُ في مفردِه.
قوله: {ساجدًّا وقائمًا} حالان. وفي صاحبهما وجهان، الظاهر منهما: أنه الضميرُ المستتر في {قانِتٌ}. والثاني: أنه الضميرُ المرفوعُ ب {يَحْذَرُ} قُدِّما على عامِلهما. والعامَّةُ على نصبِهما. وقرأ الضحاك برفعهما على أحد وجهين: إمَّا النعتِ ل {قَانِتٌ} وإمَّا أنهما خبرٌ بعد خبر.
قوله: {يَحْذَر} يجوز أن يكونَ حالًا من الضمير في {قانتٌ} وأن يكونَ حالًا من الضمير في {ساجدًّا وقائمًا} وأَنْ يكونَ مستأنفًا جوابًا لسؤالٍ مقدرٍ كأنه قيل: ما شأنُه يَقْنُتُ آناءَ الليل ويُتْعِبُ نفسَه ويُكُدُّها؟ فقيل: يَحْذَرُ الآخرَة ويَرْجُو رحمةَ ربِّه، أي: عذابَ الآخرةِ. وقُرِئ {إِنَّمَا يَذَّكَّرُ أُوْلُو} بإدغامِ التاءِ في الذَّال.
{قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)}.
قوله: {فِي هذه الدنيا} يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بالفعل قبله؛ وحُذِفَت صفةُ {حسنةٌ} إذ المعنى: حسنة عظيمة؛ لأنه لا يُوْعَدُ مَنْ عمل حسنةً في الدنيا، حسنةً مطلقًا بل مقيَّدةً بالعِظَم، وأنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنها حالٌ مِنْ حسنة كانَتْ صفةً لها، فلمَّا تَقَدَّمَتْ بقيَتْ حالًا. و{بغيرِ حسابٍ} حالٌ: إمَّا مِنْ {أَجْرَهم} وإمَّا من {الصابرون} أي: غيرَ محاسَبٍ عليه، أو غيرَ محاسَبين.
{وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12)}.
قوله: {وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ} في هذه اللامِ وجهان، أحدهما: أنها للتعليلِ تقديره: وأُمِرْتُ بما أُمِرْتُ به لأَنْ أكونَ. قال الزمخشري: فإن قلتَ: كيف عَطَفَ أُمِرْت على أُمِرت وهما واحدٌ؟ قلت: ليسا بواحدٍ لاختلافِ جهتيهما: وذلك أنَّ الأمرَ بالإِخلاصِ وتكليفَه شيءٌ، والأمرَ به ليُحْرِز به قَصَبَ السَّبْقِ في الدين شيءٌ آخرُ. وإذا اختلفَ وجها الشيء وصفتاه يُنَزَّل بذلك مَنْزِلَةَ شيئين مختلفين. والثاني أن تكونَ اللامُ مزيدةً في أَنْ. قال الزمخشري: ولك أن تَجْعَلَ اللامَ مزِيدَةً، مَثَلُها في قولك: أَرَدْتُ لأَنْ أفعلَ ولا تُزاد إلاَّ مع أَنْ خاصةً دونَ الاسمِ الصريح، كأنها زِيْدَتْ عوضًا من تَرْكِ الأصل إلى ما يقومُ مَقامَه، كما عُوِّض السينُ في اسطاع عوضًا من تَرْكِ الأصل الذي هو أَطْوَعَ. والدليلُ على هذا الوجهِ مجيئُه بغيرِ لامٍ في قولِه: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين} [يونس: 72] {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المؤمنين} [يونس: 104] {أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} [الأنعام: 14] انتهى.
قوله: ولا تُزاد إلا مع أنْ فيه نظرٌ، من حيث إنها تُزاد باطِّرادٍ إذا كان المعمولُ متقدمًا، أو كان العامل فرعًا. وبغير اطِّرادٍ في غيرِ الموضعين، ولم يَذْكُرْ أحدٌ من النحويين هذا التفصيلَ. وقوله: كما عُوِّض السينُ في اسْطاع هذا على أحد القولين. والقول الآخر أنَّه استطاع فحُذِفَتْ تاءُ الاستفعالِ. وقوله: والدليلُ عليه مجيئُه بغير لامٍ قد يُقال: إنَّ أصلَه باللامِ، وإنما حُذِفَتْ لأنَّ حَرْفَ الجرِّ يَطَّرِدُ حَذْفُه مع أنْ وأنَّ، ويكون المأمورُ به محذوفًا تقديرُه: وأُمِرْت أن أعبدَ لأَنْ أكونَ.
{قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14)}.
قوله: {قُلِ الله أَعْبُدُ} قُدِّمَتِ الجلالةُ عند قومٍ لإِفادةِ الاختصاصِ. قال الزمخشريُّ: ولدلالتِه على ذلك قَدَّمَ المعبودَ على فِعْلِ العبادةِ هنا، وأَخَّره في الأول، فالكلامُ أولًا واقعٌ في الفعل نفسِه وإيجادِه، وثانيًا فيمن يفعلُ الفعلَ مِنْ أجلِه، فلذلك رَتَّبَ عَليه قولَه: {فاعبدوا مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ}.
{لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16)}.
قوله: {لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ} يجوزُ أَنْ يكونَ الخبرُ أحدَ الجارَّيْنِ المتقدِّمَيْنِ، وإن كان الظاهرُ جَعْلَ الأولِ هو الخبرَ، ويكون {مِنْ فوقِهم} إمَّا حالًا مِنْ {ظُلَل} فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، وإمَّا متعلقًا بما تعلَّق به الخبرُ، و{مِن النار} صفةٌ ل {ظُلَل} وقوله: {وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} كما تقدَّم، وسَمَّاها ظلالًا بالنسبة لمَنْ تَحْتهم.
{وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17)}.
قوله: {أَن يَعْبُدُوهَا} الضميرُ عائدٌ على الطاغوتِ لأنها تُؤَنَّثُ، وقد تقدَّم القولُ عليها مستوفىً في البقرة. و{أَنْ يعبدوها} في محلِّ نصبٍ على البدل من الطاغوت بدلِ اشتمالٍ، كأنه قيل: اجْتَنِبُوا عبادةَ الطاغوتِ. والموصولُ مبتدأٌ. والجملةُ مِنْ {لهم البشرى} الخبرُ. وقيل: {لهم} هو الخبرُ بنفسِه.
{والبُشْرى} فاعلٌ به وهذا أَوْلَى لأنه مِنْ بابِ الإِخبار بالمفرداتِ. وقوله: {فبَشِّرْ عبادي} من إيقاع الظاهرِ مَوْقِعَ المضمرِ أي: فبَشِّرْهُمْ أي: أولئك المجتَنبين، وإنما فُعِلَ ذلك تصريحًا بالوصفِ المذكور.
{الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)}.
قوله: {الذين يَسْتَمِعُونَ} الظاهرُ أنه نعتٌ لعبادي، أو بدلٌ منه، أو بيانٌ له. وقيل: يجوزُ أَنْ يكونَ مبتدًا. وقوله: {أولئك الذين} إلخ خبرُه. وعلى هذا فالوقفُ على قولِه: {عبادي} والابتداءُ بما بعدَه.
{أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19)}.
قوله: {أَفَمَنْ حَقَّ} في مَنْ هذه وجهان، أظهرهما: أنها موصولةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداء. وخبرُه محذوفٌ، فقدَّره أبو البقاء كمَنْ نجا. وقَدَّره الزمخشري: فأنت تُخَلِّصُه قال: حُذِفَ لدلالةِ {أفأنت تُنْقِذُ} عليه. وقَدَّره غيرُه تتأسَّفُ عليه. وقدَّره آخرون يَتَخَلَّص منه أي: من العذاب وقدَّر الزمخشريُّ على عادته جملةً بين الهمزة والفاء. تقديرُه: أأنت مالِكُ أَمْرِهم، فمَنْ حَقَّ عليه كلمةُ العذاب. وأمَّا غيرُه فيدَّعي أن الأصلَ تقديمُ الفاءِ وإنما أُخِّرَتْ لِما تستحقُّه الهمزةُ من التصديرِ. وقد تقدَّمَ تحقيق هذين القولين غيرَ مرةٍ. والثاني: أَنْ تكون مَنْ شرطيةً، وجوابُها: أفأنت. فالفاء فاءُ الجوابِ دَخَلَتْ على جملةِ الجزاءِ، وأُعيدتِ الهمزةُ لتوكيد معنى الإِنكار، وأوقع الظاهرَ وهو {مَن فِي النار} موقعَ المضمرِ، إذ كان الأصلُ: أفأنت تُنْقِذُه. وإنما وَقَعَ موقعَه شهادة عليه بذلك. وإلى هذا نحا الحوفيُّ والزمخشري. قال الحوفي: وجيْءَ بألف الاستفهام لَمَّا طَال الكلامُ توكيدًا، ولولا طولُه لم يَجُزْ الإِتيانُ بها؛ لأنه لا يَصْلُحُ في العربيةِ أَنْ يأتيَ بألف الاستفهام في الاسمِ وألفٍ أخرى في الجزاء. ومعنى الكلام: أفأنت تُنْقِذُه. وعلى القول بكونِها شرطيةً يترتَّبُ على قولِ الزمخشري وقولِ الجمهور مسألةٌ: وهو أنَّه على قولِ الجمهورِ يكونُ قد اجتمع شرطٌ واستفهامٌ. وفيه حينئذٍ خلافٌ بين سيبويه ويونسَ: هل الجملة الأخيرةُ جواب الاستفهام وهو قولُ يونسَ، أو جوابٌ للشرط، وهو قولُ سيبويه؟ وأمَّا على قَوْلِ الزمخشريِّ فلم يَجْتمع شرطٌ واستفهامٌ؛ إذ أداةُ الاستفهامِ عندَه داخلةٌ على جملةٍ محذوفةٍ عُطِفَتْ عليها جملةُ الشرط، ولم يَدْخُلْ على جملةِ الشرطِ. وقوله: {أفأنت تُنْقِذُ} استفهامُ توقيفٍ وقُدِّم فيها الضميرُ إشعارًا بأنك لست قادرًا على إنقاذِه إنَّما القادرُ عليه اللَّهُ وحدَه.
{لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20)}.
قوله: {لكن الذين اتقوا} استدراكٌ بين شيئين نقيضَيْن أو ضِدَّيْن، وهما المؤمنون والكافرون.
وقوله: {وَعْدَ اللَّهِ} مصدرٌ مؤكِّدٌ لمضمونِ الجملةِ، فهو منصوبٌ بواجبِ الإِضمار.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21)}.
قوله: {ثُمَّ يَجْعَلُهُ} العامَّةُ على رَفْعِ الفعلِ نَسَقًا على ما قبلَه. وقرأ أبو بشر {ثم يَجْعَلَه} منصوبًا. قال الشيخ: قال صاحب الكامل: وهو ضعيفٌ انتهى. يعني بصاحب الكامل الهذليَّ ولم يُبَيِّنْ هو ولا صاحبُ الكامل وَجْهَ ضَعْفِه ولا تخريجَه. فأمَّا ضعفُه فواضحٌ حيث لم يتقدَّم ما يَقْتَضي نصبَه في الظاهر. وأمَّا تخريجُه فقد ذكر أبو البقاء فيه وجهين، أحدُهما: أَنْ ينتصِبَ بإضمار أن ويكونَ معطوفًا على قولِه: {أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السماء مَاءً} في أولِ الآيةِ، والتقدير: ألم تَرَ إنزالَ اللَّهِ ثم جَعْلَه. والثاني: أَنْ يكونَ منصوبًا بتقدير تَرَى أي: ثم تَرَى جَعْلَه حُطامًا، يعني أنه يُنْصَبُ ب أنْ مضمرةً، وتكونُ أنْ وما في حَيِّزِها مفعولًا به بفعلٍ مقدرٍ وهو {تَرَى} لدلالة {ألم تَرَ} عليه.
{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)}.
قوله: {أَفَمَن شَرَحَ الله} {أَفَمَن يَتَّقِي} [الزمر: 24] كما تقدَّم في {أَفَمَنْ حَقَّ} [الزمر: 19]. والتقديرُ: أفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صدرَه للإِسلامِ كمَنْ قسا قلبُه، أو كالقاسي المُعْرِضِ، لدلالةِ {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} عليه. وكذا التقديرُ في: أفَمَنْ يَتَّقِي أي: كمن أَمِنَ العذابَ، وهو تقديرُ الزمخشريِّ، أو كالمُنْعَمِيْنَ في الجنةِ، وهو تقديرُ ابنِ عطية.
{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)}.
قوله: {كِتَابًا} فيه وجهان، أظهرهما: أنه بدلٌ مِنْ {أحسنَ الحديث}. والثاني: أنه حالٌ منه. قال الشيخ- لَمَّا نقله عن الزمخشري-: وكأنَّه بناءً على أنَّ {أَحْسَن الحديث} معرفةٌ لإِضافتِه إلى معرفةٍ، وأفعلُ التفضيلِ إذا أُضيف إلى معرفةٍ فيه خلافٌ. فقيل: إضافتُه مَحْضَةٌ. وقيل: غيرُ محضة. قلت: وعلى تقديرِ كونِه نكرةً يَحْسُنُ أيضًا أَنْ يكونَ حالًا؛ لأنَّ النكرةَ متى أُضيفَتْ ساغ مجيءُ الحالِ منها بلا خلافٍ. والصحيحُ أنَّ إضافةَ أَفْعَلَ محضةٌ. و{مُتَشابِهًا} نعتٌ ل كتاب وهو المُسَوِّغُ لمجيءِ الجامدِ حالًا، أو لأنَّه في قوةِ مكتوب.